سورة النحل - تفسير تفسير البقاعي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النحل)


        


ولما انقضى الدليل على أن قلوبهم منكرة استكباراً وما يتعلق به، وختمه بما أحيا به القلوب بالإيمان والعلم بعد موتها بالكفر والجهل، وكان المقصود الأعظم من القرآن تقرير أصول أربعة: الإلهيات، والنبوات، والمعاد، وإثبات القضاء والقدر والفعل بالاختيار، وكان أجل هذه المقاصد الإلهيات، شرع في أدلة الوحدانية والقدرة والفعل بالاخيتار المستلزم للقدرة على البعث على وجه غير المتقدم ليعلم أن أدلة ذلك أكثر من أوراق الأشجار، وأجلى من ضياء النهار فعطف على قوله: {والله يعلم ما تسرون وما تعلنون} قوله جامعاً في الدليل بين العالم العلوي والعالم السفلي: {والله} أي الذي له الأمر كله {أنزل من السماء} في الوقت الذي يريده {ماء} بالمطر والثلج والبرد {فأحيا به الأرض} الغبراء. ولما كانت عادته بذلك مستمرة، وكان السياق لإثبات دعائم الدين، وكان الإحياء بالماء لا يزال أثره قائماً في زرع أو شجر في بعض الأراضي، أعرى الظرف من الجار لأن المعنى به أبلغ فقال: {بعد موتها} باليبوسة والجدب وتفتت النبات أصلاً ورأساً.
ولما كان ما أقامه على ذلك في هذه السورة من الأدلة قد صار إلى حد لا يحتاج معه السامع العاقل إلى أكثر من السماع، قال تعالى: {إن في ذلك} الماء المؤثر بتدبيره هذا الأثر العظيم {لآية لقوم يسمعون} هذا التنبيه في هذا الأسلوب المتضمن لما مضى من التشبيه، فيعلمون أنه ينزل من أمره ما يريده فيحيي به أجساد العباد بعد موتها كما أحيى أجساد النبات بالماء بعد موتها وأرواح الأشباح بالعلم بعد موتها، والحاصل ان هذه الأدلة لا تحتاج مع الحس إلى كبير عمل بالقلب غير الانقياد إلى الحق، وترك العناد والجهل، فهو من سماع الأذن وما ينشأ عنه من الإجابة، استعمالاً للشيء في حقيقته ومجازه، ولعله لم يختمها ب {يبصرون} لئلا يظن أن ذلك من البصيرة، فيظن أنه يحتاج فيها إلى كبير فكر فيفوت ما أريد من الإشارة إلى شدة الوضوح.
ولما ذكر سبحانه هذا الأمر العام، ونبه على ما فيه من غريب الصنع الذي غفل عنه لشدة الألف به، أتبعه بعض ما ينشأ عنه من تفاصيل الأمور، المحتوية على عجائب المقدور، وبدأ بأعمها وأشدها ملابسة لهم، وأكثرها في نفسه وأعظمها منفعة ودخلاً في قوام عيشهم، فقال: {وإن لكم} أي أيها المخاطبون المغمورون في النعم! {في الأنعام} ولما كانت الأدلة يعبر بها من الجهل إلى العلم قال: {لعبرة} فكأنه قيل: ما هي؟ فقيل: {نسقيكم} بضم النون في قراءة الجماعة من أسقاه- إذا أعد له ما يشربه دائماً من نهر أو لبن وغيرهما، وبالفتح في قراءة نافع وابن عامر وعاصم في رواية شعبة: من سقاه- إذا ناوله شيئاً فشربه.
ولما كان الأنعام اسم جمع، فكان مفرداً كما نقل ذلك سيبويه، وذكر المسقي وهو اللبن، لما اقتضاه سياق السورة من تعداد النعم فتعينت إرادة الإناث لذلك، فانتفى الالتباس مع تذكير الضمير، قال تعالى: {مما} أي من بعض الذي {في بطونه} فذكر الضمير لأمن اللبس والدلالة على قوة المعنى لكونها سورة النعم بخلاف ما في المؤمنون.
ولما كان موضع العبرة تخليص اللبن من غيره، قدم قوله تعالى: {من بين فرث} وهو الثفل الذي ينزل إلى الكرش، فإذا خرج منه لم يسم فرثاً {ودم لبناً خالصاً} من مخالط منهما أو من غيرهما يبغي عليه بلون أو رائحة؛ عن ابن عباس رضي الله عنهما: إذا أكلت البهيمة العلف واستقر في كرشها طبخته، فكان أسفله فرثاً، وأوسطه لبناً، وأعلاه دماً. والكبد مسلطة على هذه الأصناف الثلاثة تقسمها، فيجري الدم في العروق، واللبن في الضرع، ويبقى الفرث في الكرش. {سائغاً} أي سهل المرور في الحقل {للشاربين} ثم عطف عليه ما هو أنفس منه عندهم وأقرب إليه في المعاني المذكورة، فقال تعالى معلقاً ب {نسقيكم} {ومن ثمرات النخيل والأعناب}.
ولما كان لهم مدخل في اتخاذ ما ذكر منه بخلاف اللبن الذي لا صنع لهم يه أصلاً، أسند الأمر إليهم وليكون ذلك إشارة إلى كراهة السكر وتوطئة للنهي عنه في قوله مستأنفاً: {تتخذون} أي باصطناع منكم وعلاج، ولأجل استئناف هذه الجملة كان لا بد من قوله: {منه} أي من مائه، وعبر عن السكر بالمصدر إبلاغاً في تقبيحه، وزاد في الإبلاغ بالتعبير بأثقل المصدرين وهو المحرك، يقال: سكر سكْراً وسكَراً مثل رشد رشْداً ورشَداً، ونحل نحْلاً ونحَلاً، فقال تعالى: {سكراً} أي ذا سكر منشّياً مطرباً سادّاً لمجاري العقل قبيحاً غير مستحسن للرزق {ورزقاً حسناً} لا ينشأ عنه ضرر في بدن ولا عقل من الخل والدبس وغيرهما، ولا يسد شيئاً من المجاري، بل ربما فتحها كالحلال الطيب، فإنه ينير القلب، ويوسع العقل، والأدهان كلها تفتح سدد البدن، وهذا كما منحكم سبحانه العقل الذي لا أحسن منه فاستعمله قوم على صوابه في الوحدانية، وعكس آخرون فدنسوه بالإشراك؛ قال الرماني: قيل: السكر ما حرم من الشراب، والرزق الحسن: ما أحل منه- عن ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن جبير وإبراهيم والشعبي وأبي رزين والحسن ومجاهد وقتادة رضي الله عنهم. والسكر في اللغة على أربعة أوجه: الأول ما أسكر. الثاني ما أطعم من الطعام. الثالث السكون. الرابع المصدر من السكر، وأصله انسداد المجاري مما يلقي فيها، ومنه السكر- يعني بكسر ثم سكون، ومن حمل السكر على السكر قال: إنها منسوخة بآية المائدة، والتعبير عنه بما يفهم سد المجاري يفهم كراهته عندما كان حلالاً؛ والآية من الاحتباك: ذكر السكر أولاً دال على الفتح ثانياً، وذكر الحسن دال القبيح أولاً، فالآية أدل ما في القرآن على المعتزلة في أن الرزق يطلق على الحرام، ولتقارب آيتي الأنعام والأشجار جمعهما سبحانه فقال تعالى: {إن في ذلك} أي الأمر العظيم من هذه المنافع {لآية} ولوضوح أمرهما في كمال قدرة الخالق ووحدانيته قال تعالى: {لقوم يعقلون}.


ولما كان أمر النحل في الدلالة على تمام القدرة وكمال الحكمة أعجب مما تقدم وأنفس، ثلث به وأخره لأنه أقل الثلاثة عندهم، وغير الأسلوب وجعله من وحيه إيماء إلى ما فيه من غريب الأمر وبديع الشأن فقال تعالى: {وأوحى ربك} أي المحسن إليك بجعل العسل في مفاوز البراري المقفرة المفرطة المرارة وغيرها من الأماكن وبغير ذلك من المنافع، الدال على الفعل بالاختيار وتمام الاقتدار {إلى النحل} أي بالإلهام؛ قال الرازي في اللوامع: فالله تعالى أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، فبعضها بالتسخير المجرد كالجمادات، وبعضها بالإلهام والتسخير كالنحل والسرفة- أي بضم وسكون، وهي دويبة تتخذ بيتاً من دقاق العيدان فتدخله وتموت- والعنكبوت، وبعضها بالتسخير والإلهام والعقل المتفق على نظام واحد كالملائكة، وبعضها بكل ذلك والفكر والتمييز والأعمال المختلفة المبنية على الفكر كالإنسان.
ولما كان في الإيحاء معنى القول، أتى ب {أن} المفسرة فقال تعالى: {أن اتخذي} أي افعلي ما يفعله المتكلف من أن يأخذ {من الجبال بيوتاً} أيّ بيوت! ما أعجبها! {ومن الشجر} أي الصالحة لذلك في الغياض والجبال والصحارى {ومما يعرشون} أي يرفع الناس من السقوف والجدران وغيرها، وبدأ بالبيوت لأنها من عجب الدهر في حسن الصنعة وبداعة الشكل وبراعة الإحكام وتمام التناسب.
ولما كان أهم شيء للحيوان بعد الراحة من همّ المقيل الأكل، ثنى به، ولما كان عاماً في كل ثمر، ذكره بحرف التراخي إشارة إلى عجيب الصنع في ذلك وتيسيره لها، فقال تعالى: {ثم كلي} وأشار إلى كثرة الرزق بقوله تعالى: {من كل الثمرات} قالوا: من أجزاء لطيفة تقع على أوراق الأشجار من الظل، وقال بعضهم: من نفس الأزهار والأوراق.
ولما أذن لها في ذلك كله، وكان من المعلوم عادة أن تعاطيه لا يكون إلا بمشقة عظيمة في معاناة السير إليه، نبه على خرقه للعادة في تيسيره لها فقال تعالى: {فاسلكي} أي فتسبب عن الإذن في الأكل الإذن في السير إليه {سبل ربك} أي المحسن إليك بهذه التربية العظيمة لأجل الأكل ذاهبة إليه وراجعة إلى بيوتك حال كون السبل {ذللاً} أي موطأة للسلوك مسهلة كما قال تعالى: {هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً} [الملك: 15] وأشار باسم الرب إلى أنه لولا عظيم إحسانه في تربيتها لما اهتدت إلى ذلك؛ ثم أتبعه نتيجة ذلك جواباً لمن كأنه قال: ماذا يكون عن هذا كله؟ فقال تعالى:- {يخرج من بطونها} بلفت الكلام لعدم قصدها إلى هذه النتيجة {شراب} أيّ شراب! وهو العسل لأنه مع كونه من أجلّ المآكل هو مما يشرب {مختلف ألوانه} من أبيض وأحمر وأصفر وغير ذلك، اختلافاً دالاً على أن فاعله مع تمام قدرته مختار، ثم أوضح ذلك بقوله تعالى: {فيه} أي مع كونه من الثمار النافعة والضارة {شفاء للناس} قال الإمام الرازي في اللوامع: إذ المعجونات كلها بالعسل، وقال إمام الأولياء محمد بن علي الترمذي: إنما كان ذلك لأنها ذلت لله مطيعة وأكلت من كل الثمرات: حلوها ومرها محبوبها ومكروهها، تاركة لشهواتها، فلما ذلت لأمر الله، صار هذا الأكل لله، فصار ذلك شفاء للأسقام، فكذلك إذا ذل العبد لله مطيعاً، وترك هواه، صار كلامه شفاء للقلوب السقيمة- انتهى.
وكونه شفاء- مع ما ذكر- أدل على القدرة والاختيار من اختلاف الألوان، لا جرم وصل به قوله تعالى: {إن في ذلك} أي الأمر العظيم من أمرها كله {لآية} وكما أشار في ابتداء الآية إلى غريب الصنع في أمرها، أشار إلى مثل ذلك في الختم بقوله تعالى: {لقوم يتفكرون} أي في اختصاص النحل بتلك العلوم الدقيقة واللطائف الخفية بالبيوت المسدسة، والاهتداء إلى تلك الاجزاء اللطيفة من أطراف الأشجار والأوراق- وغير ذلك من الغرائب حيث ناطه بالفكر المبالغ فيه من الأقوياء، تأكيداً لفخامته وتعظيماً لدقته وغرابته في دلالته على تمام العلم وكمال القدرة، وقد كثر في هذه السورة إضافة الآيات إلى المخاطبين، تارة بالإفراد وتارة بالجمع، ونوطها تارة بالعقل وتارة بالفكر، وتارة بالذكر وتارة بغيرها.
وقد جعل الإمام الرباني أبو الحسن الحرالي في كتابه المفتاح لذلك باباً بعد أن جعل أسنان الألباب مثل أسنان الأجساد ما بين تمييز واحتلام وشباب وكهولة وغيرها كما تقدم نقله عنه في سورة براءة عند قوله تعالى: {ومنهم الذين يؤذون النبي} [براءة: 61] فقال: الباب التاسع في وجوه إضافات الآيات واتساق الأحوال لأسنان القلوب في القرآن- أي فإن لذلك مراتب في العلم والأفهام-: اعلم أن الآيات والأحوال تضاف وتتسق لمن اتصف بما به أدرك معناها، ويؤنب عليها من تقاصر عنها، وينفي منالها عمن لم يصل إليها، وهي أطوار أظهرها آيات الاعتبار البادية لأولي الأبصار، لأن الخلق كله إنما هو عَلَم للاعتبار منه، لا أنه موجود للاقتناع به {ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن ءاياتنا غافلون أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون} [يونس: 7-8] اتخذوا ما خلق للعبرة به إلى ربه كسباً لأنفسهم حتى صار عندهم وعند أتباعهم آيتهم، لا آية خالقه {أتبنون بكل ريع ءاية تعبثون} [الشعراء: 128]، {والله خلقكم وما تعملون} ثم يلي آيات الاعتبار ما ينال إدراك آيته العقل الأدنى ببداهة نظره {وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون} [النحل: 12] جمع الآيات لتعدد وجوهها في مقصد البيان، ثم يلي ما يدرك ببداهة العقل ما يحتاج إلى فكر يثيره العقل الأدنى لشغل الحواس بمنفعته عن التفكر في وجه آيته {هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون} [النحل: 10] أفرد الآية لاستناد كثرته إلى وحدة الماء ابتداء ووحدة الانتفاع انتهاء؛ ثم يلي ما يدرك بفكر العقل الأدنى ما يقبل بالإيمان ويكون آية أمر قائم على خلق، وهو مما يدرك سمعاً لأن الخلق مرئي والأمر مسموع {وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون والله أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآية لقوم يسمعون} [النحل: 63-64-65] هذه آية حياة القلوب بنور العلم والحكمة الذي أخذ سمعاً عند تقرر الإيمان، وعند هذا الحد يتناهى العقل إلى فطرة الأشد وتعلو بداهته وتترقى فطره إلى نظر ما يكون آية في نفس الناظر لأن محار غيب الكون يرد إلى وجدان نقص الناظر، وكما أن الماء آية حياة القلوب صار الشرابان: اللبن والخمر، آيتين على أحوال تخص القلوب بما يغذوها من الله غذاء اللبن وينشيها نشوة السكر، منبعثاً من بين فرث ودم ونزول الخلق المقام عن الأمر القائم عليه {وإن لكم في الأنعام لعبرة} الآيتين إلى قوله تعالى: {إن في ذلك لآية لقوم يعقلون} وهذا العقل الأعلى، وأفرد الآية لانفراد موردها في وجد القلب، وكما للعقل الأدنى فكرة تنبئ عن بداهته فكذلك للعقل الأعلى فكرة تنبئ عن عليّ فطرته {وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر- إلى قوله: لآية لقوم يتفكرون} وهذا العقل الأعلى هو اللب الذي عنه يكون التذكر بالأدنى من الخلق لللأعلى من الأمر {وما ذرأ لكم في الأرض مختلفاً ألوانه إن في ذلك لآية لقوم يذكرون} [النحل: 13] وفي مقابلة كل من هذه الأوصاف أضداد يرد البيان فيها بحسب مقابلتها، وكذلك حكم وصف المسلمين فيها يظهر أن «لا أنجى للعبد من إسلامه نفسه لربه» ووصف المحسنين فيما يظهر قيام ظاهر حسه {آلم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين} [البقرة: 1] من استغنى بما عنده من وجدٍ لم يتفرغ لقبول غيب {يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله وءامنوا برسوله} [الحديد: 28]، {إذا ما اتقوا وءامنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وءامنوا ثم اتقوا وأحسنوا} [المائدة: 93]، {ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه}، {ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين} «فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به» {وفي خلقكم وما يبث من دابة ءايات لقوم يوقنون} [الجاثية: 4] {وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين} [الأنعام: 75] ولجملة هذه الأوصاف أيضاً أضداد يرد بيان القرآن فيها بحسب تقابلها ويجري معها إفهامه، وما أوصله خفاء المسمع والمرأى إلى القلب هو فقهه، ومن فقد ذلك وصف سمعه بالصمم وعينه بالعمى، ونفى الفقه عن قلبه، ونسب إلى البهيمية، ومن لم تنل فكرته أعلام ما غاب عيانه نفي عنه العلم {الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعاً} [الكهف: 101]، {لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم ءاذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون} [الأعراف: 179]، {يقولون لئن رجعنا إلى المدينة} [المنافقون: 8]-إلى قوله: {ولكن المنافقين لا يعلمون} [المنافقون: 8]، {يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا} الآية إلى قوله تعالى: {ولكن المنافقين لا يفقهون} نفي العلم فيما ظهرت أعلامه والفقه فيما خفي أمره، ومراد البيان عن أضدادها هذه الأوصاف بحسب تقابلها، وهذا الباب لمن يستفتحه من أنفع فواتح الفهم في القرآن- انتهى.


ولما أيقظهم من رقدتهم، ونبههم على عظيم غفلتهم من عموم القدرة وشمول العلم، المقتضي للفعل بالاختيار، المحقق للبعث وغيره، من كل ما يريده سبحانه ببعض آياته المبثوثة في الآفاق من جماد ثم حيوان، وختم ذلك بما هو شفاء، ثنى ببعض ما في أنفسهم من الأدلة على ذلك مذكراً بمراتب عمر الإنسان الأربع، وهي سن الطفولية والنمو، ثم سن الشباب الذي يكون عند انتهائه الوقوف، ثم سن الكهولة وفيه يكون الانحطاط مع بقاء القوة، ثم سن الانحطاط مع ظهور الضعف وهو الشيخوخة، مضمناً ما لا يغني عنه دواء، حثاً على التفكر في آياته والتعقل لها قبل حلول ذلك الحادث، فيفوت الفوت، ويندموا حيث لا ينفع الندم، فقال: {والله} أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً {خلقكم} فجعلكم بعد العدم أحياء فهّماً خصّماً {ثم يتوفاكم} على اختلاف الأسنان، فلا يقدر الصغير على أن يؤخر، ولا الكبير على أن يقدم، فمنكم من يموت حال قوته {ومنكم من يرد} أي بأيسر أمر منا، لا يقدر على مخالفته بوجه {إلى أرذل العمر} لأنه يهرم فيصير إلى مثل حال الطفولية في الضعف مع استقذار غيره له، ولا يرجى بعده {لكي لا يعلم}.
ولما كان مقصود السورة الدلالة على تمام القدرة وشمول العلم والتنزه عن كل شائبة نقص، وكان السياق هنا لذلك أيضاً بدليل ختم الآية، نزع الخافض للدلالة على استغراق الجهل لزمن ما بعد العلم، فيتصل بالموت، ولا ينفع فيه دواء ولا تجدي معه حيلة فقال: {بعد علم شيئاً} لا يوجد في شيء من ذلك عند إحلاله شفاء، ولا يمنعه دواء: فبادروا إلى التفكر والاعتبار قبل حلول أحد هذين، ثم علل ذلك بقوله تعالى: {إن الله} أي الذي له الإحاطة الكاملة {عليهم قدير} أي بالغ العلم شامل القدرة، فمهما أراد كان، ومهما أراد غيره ولم يرده هو، أحاط به علمه، فسبب له بقدرته ما يمنعه.
ولما ذكر المفاوتة في الأعمار المنادية بإبطال الطبائع الموجبة للمسابقة إلى الاعتبار لأولي الأبصار للخوف كل لحظة من مصيبة الموت، ثنى بالمفاوتة في الأرزاق فقال تعالى: {والله} أي الذي له الأمر كله {فضل بعضكم} أيها الناس {على بعض}.
ولما كانت وجوه التفضيل كثيرة، وكان التفضيل في المعاش الذي يظن الإنسان أن له قدرة على تحصيله، وكانت المفاوتة فيه أدل على تمام القدرة والفعل بالاختيار الذي السياق له، قال تعالى: {في الرزق} أي ولربما جعل الضعيف العاجز الجاهل أغنى من القوي المحتال العالم، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، وأقبلوا بجميع قلوبكم على ما ينفعكم من الاستبصار؛ قال الإمام أبو نعيم في الحلية: حدثنا سليمان بن أحمد ثنا أحمد ثنا أحمد بن أحمد بن عمرو الخلال قال: سمعت ابن أبي عمر يقول: كنا عند سفيان بن عيينة فذكروا الفضل بن الربيع ودهاءه، فأنشأ سفيان يقول:
كم من قويّ قوي في تقلبه *** مهذب الرأي عنه الرزق منحرف
ومن ضعيف ضعيف العقل مختلط *** كأنه من خليج البحر يغترف
وعن نوادر أبي علي القالي أنه قال: قال أبو بكر بن الأنباري: وحدثني أبي قال: بعث سليمان المهلبي إلى الخليل بن أحمد بمائة ألف درهم وطالبه بصحبته فرد عليه المائة ألف، وكتب إليه هذه الأبيات:
أبلغ سليمان أني عنه في سعة *** وفي غنى غير أني لست ذا مال
سخي بنفسي أني لا أرى أحداً *** يموت هزلاً ولا يبقى على حال
فالرزق عن قدر لا العجز ينقصه *** ولا يزيدك فيه حول محتال
والفقر في النفس لا في المال تعرفه *** ومثل ذاك الغنى في النفس لا المال
ولما كان جعل المملوك في رتبة المالك مما يتعاظمهم في حقوقهم مع أنه في الحقيقة لا مالك ولا مُلك، فلا يدينون لذلك ولا يدانونه وإن جل الخطب وأدى إلى ذهاب الأرواح، بل من كانت أمه مملوكة حطوا رتبته وإن كان أبوه من كان، وإن كانت العبرة عندهم في النسب بالأب، وهذا هو الذي أحوج عنترة إلى قوله:
إني امرؤ من خير عبس منصباً *** شطري وأحمي سائري بالمنصل
إلى غير ذلك مما كان يعتذر به عن جهة أمه، نبههم سبحانه على ما وقعوا فيه في حقه من ذلك بسبب الإشراك مع أنه مالك الملك وملك الملوك بعد ما اجترؤوا عليه في تفضيل أنفسهم في نسبة البنات إليه، فقال تعالى: {فما الذين فضلوا} أي في الرزق {برادّي رزقهم} أي الذي اختصوا به {على ما ملكت أيمانهم} وإن جل نفعهم وتعاظم عندهم وقعهم {فهم فيه سواء} أي فيكون بذلك الرد المالك والمملوك سواء، فهو جواب للنفي- نقله الرمال عن ابن عباس ومجاهد وقتادة رضي الله عنهم.
ولما وضح ذلك وضوح الشمس وظهر حتى ما به أصلاً نوع لبس، تسبب عنه الإنكار في قوله على وجه الإعراض عن خطابهم المؤذن بالمقت: {أفبنعمة الله} أي الذي لا رب غيره {يجحدون} في جعلهم له شركاء يضيفون إليهم بعض ما أنعم به عليهم، فيسوون بينهم وبينه في ذلك وبنعمتهم يعترفون ولها يحفظون في إنزال ما ملكت أيمانهم عنهم في المراتب والأموال.
ولما ذكر الخلق والرزق، أتبعهما الألذاذ بالتأنس بالجنس من الأزواج والأولاد وغيرهما اللازم له القيام بالمصالح فقال تعالى: {والله} أي الذي له تمام القدرة وكمال العلم {جعل لكم} ولما كان الأزواج من الجنس، قال: {من أنفسكم} لأن الشيء آلف لنوعه وأقرب إلى جنسه {أزواجاً} أي تتوالدون بها ويبكون السكون إليها سبباً لبقاء نوعكم {وجعل لكم} أي أيها الناس الذين يوجهون رغباتهم إلى غيره! {من أزواجكم بنين} ولعله قدمهم للشرف؛ ثم عطف على ذلك ما هو أعم فقال: {وحفدة} أي من البنات والبنين وأولادهم والأصهار والأختان، جمع حافد، يخفّون في أعمالكم ويسرعون في خدمكم طاعة وموالاة، لا كما يفعل الأجانب وبعض العاقين، وهذا معنى ما نقله الرماني عن ابن عباس رضي الله عنهما من أنه فسرهم بالخدام والأعوان، وهو الصواب لأن مادة حفد تدور على الإسراع والخفة.
حفد: خفّ في العمل وأسرع، والحفد- محركة: الخدم- لخفتهم، ومشي دون الخبب، والحفدة: البنات وأولاد الأولاد أو الأصهار- لذلك، وصناع الوشي- لإسراعهم فيه وإسراع لابسه إلى لبسه منبسط النفس، والمحفد- كمجلس ومنبر: شيء يعلف فيه الدواب- لإسراعها إليه، وكمنبر: طرف الثوب لإسراع حركته، وقدح يكال به- لخفته، وكمجلس الأصل- لدوران الأمور عليه وإسراعها إليه، وسيف محتفد: سريع القطع، وأحفده: حمله على الإسراع، والفادحة: النازلة، وفوادح الدهر- خطوبه- لإسراعها بالمكروه وإسراع المنزول به ومن يهمه شأنه إلى مدافعتها، ومن ذلك فدحه الأمر: أثقله- لأن المكروه يسرع فيثقل فيكثر اضطراب المنزول به.
ولما ذكر ذلك سبحانه، أتبع ما لا يطيب العيش إلا به، فقال تعالى: {ورزقكم} أي لإقامة أودكم وإصلاح أحوالكم؛ ولما كان كل النعيم إنما هو في الجنة، بعّض فقال: {من الطيبات} بجعله ملائماً للطباع، شهياً للأرواح، نافعاً للإشباع، فعلم من هذا قطعاً أن صاحب هذه الأفعال، هو المختص بالجلال، ومن أنكر شيئاً من حقه فقد ضل أبعد الضلال، فكيف بمن أنكر خيره، وعبد غيره، وهو باسم العدم أحق منه باسم الوجود، فلذلك تسبب عنه قوله معرضاً عن خطابهم إعراض المغضب: {أفبالباطل} أي من الأصنام وما جعلوا لهم من النصيب {يؤمنون} أي على سبيل التجديد والاستمرار {وبنعمت الله} أي الملك الأعظم {هم} وله عليهم خاصة- غير ما يشاركون فيه الناس- من المنن ما له {يكفرون} حتى أنهم يجعلون مما أنعم به عليهم من السائبة والوصيلة والحامي وغيرها لأصنامهم، وذلك متضمن لكفران النعمة الكائنة منه، ومتضمن لنسبتها إلى غيره، لأنه لم يأذن لهم في شيء مما حرموه، ولا يحل التصرف في مال المالك إلا بإذنه؛ ثم قال عطفاً على ما أنكره عليهم هناك: {ويعبدون} وأشار إلى سفول المراتب كلها عن رتبته سبحانه فقال تعالى: {من دون الله} أي من غير من له الجلال والإكرام مما هو في غاية السفول من الأصنام وغيرها {ما لا يملك} أي بوجه من الوجوه {لهم رزقاً} تاركين من بيده جميع الرزق، وهو ذو العلو المطلق الذي رزقهم من الطيبات؛ ثم بين جهة الرزق فقال تعالى: {من السماوات والأرض} ثم أكد تعميم هذا النفي بقوله- مبدلاً من {رزقاً}، مبيناً أن تنوينه للتحقير-: {شيئاً} ثم أكد حقارتهم بقوله جامعاً لأن ما عجز عند الاجتماع فهو عند الانفراد أعجز: {ولا يستطيعون} أي ليس لهم نوع استطاعة أصلاً، ولك أن تجعله معطوفاً على ما مضى من المعجَّب منه من أقوالهم وأفعالهم في قوله: {ويجعلون لله ما يكرهون} ونحوه.

4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11